الاثنين، 23 فبراير 2009

لوبيّات ــــــــــــــــــــــ مدار الذاكرة ـــــــــــــــــــــ (فى الامكان ابدع مما كان ) ــــــــــــــــــــــــــ لماذا اتذكر هذا الاسم القديم ( لوبيا )؟ قد تكون محاولة يائسة لوداع الاشياء المنفلتة من صندوق الذاكرة, وربما محاولة لاحتضان هذا القديــم ومنحه القدرة كى يبتسم ويعيش فى بيئات اخرى متجدّدة , وقبل ذلك وبعده محاولة للخوض فى تجربة المنسى والمندثر والغائب وايقاظه وبعته من مرقده,لينهض مثل العنقاء من رماد بقاياه مرة اخرى ,هكذا تكون علاقة الفن بالذاكرة , علاقة حياة متجدّده او كما قيل ( ان مثل الشعر من الحياة كمثل النار من الخشب , انّ الواحد منها ليصدر عن الآخر , ولكنّه يحوّر تفاصيله ويغيّر كنهه ) . امّا هذه الاعمال فهى تأويل ثان لكهفيات الحبر والشمع / وبورتريه الحجرة , والاقنعة , بوصفها ثلاث محاولات مفتوحة ومغامرة واحدة للسفر بعيدا , سعيا دؤوبا لاكتشاف نواظم الذاكرة بصريا وحسيا وفكريا , وتقصّى أثر الزمن المنقضى , وما الذى تمتلكه اللوحة من أثر هذا الزمن التأمّلى وذاك الزمن الكامن ؟ وما الذى يمتلكه الفنان من تلك الهوة السحيقة التى تفصل المرء عمّا يشتهيه ؟ اجابات واسئلة لاتحصى ولاتعد تشير الى نجاح هنا ونجاح هناك , كما تشير فى الاْغلب الاعم الى الخسران والفشل وهى مع ذلك تختزل حتى فى ذروة فشلها وخسرانها , تجربة تكنيكية مهمّة بالنسبة للفنان وهى بنفس الدرجة تمثّل اختراقا ضروريا لذلك المستوى من التكنيك , فالفنان بالطبع لايخلق فنه فقط , بل يستخد مه ايضا فى عملية الابداع, قد تصبح ( لوبيّات ) فيما بعداشارة الى سيرة ذاتية مقترحة , لعلاقة الفنان با لآخرالاليف والآخر الضد , وقد تصير كذلك حكايات متداخلة للسرد المتقطّع عبر نهايات الفصول الاربعة, من عتبة الى عتبة, طلوعا من حلم هبوطا فى حلم, خروجا من مرآة دخولا فى مرآة . ( لوبيّات ) هى محاولة الافلات دونما جدوى , دائما هناك سمة ما كامنة , لايمكن الافلات منها بل هى المفارقة والصدفة , او ربما كانت مجرّد مراوحات مابين التجريد والتشخيص / بين البديهة والروية / بين البشر والطبيعة / او مجرّد رغبة عارمة فى الثرثرة حول حدس الظواهر وحدس الاعماق . ( لوبيّات ) ولع بالتذكر, ولع بالنسيان . او كما قال ادونيس شعرا: ( سمّ الصحراء كتاب, البحر , وسمّ الهاء الباء , ضاعت خارطة الاْ شياء وهاهى تختلط الاسماء ). لاآماكن , لااوقات , لامسافات , ولانباتات , لابراعم غضة طرية , ولااشواك . زهور بوقرعون الحمراء, ورود الفلية الصفراء , نوّار الفول , التين وحبّات الزيتون الغنانى فى احراش الخروبة , البلح البكرارى , جمّار النخل العالى , الحمادة تلك الصخور المسنونة كأنّها شظايا من نار , نبات الغسول ذو اللون , الاخضر المكسو بالتراب , لكنّ طراوة اوراقه وملمسها الناعم , يجعلانك تكره ارتداء الاحذية بى ميل للارض والحصى , الطوابى ـ احصنة من طين , صوت آلة المقرونةالصادح , رائحة جيرالحيطان المعشّق بقطرات مياه المطر , مرباط ـ شاطىء بكر بلاسفائن , افق مشرع على نهايات الابيض المتوسط , حجرة طولها إثنا عشر مترا , وعرضها خمسة امتار , باب بخوخه , زيت القنديل المعلّق فى صنوّر السقف , القاطر ـ ايقاع متواتر يتماهى خلال قصص السيرة , جذع شجرة متحجّرة ينتصب شاهدا , ومطلا على مسرب ترابى يفضى الى جامع البدوى , ويحكى تاريخ عمارته الفطرية الاخّادة قسمات الوجوه الصغيرة البريئة, وصوت القارئى الاجش يرتّل قصار السور , كل هذه التداعيات مشكاوات لاتفارق مدار الذاكرة وان فارقته. ( 1 ) لم يكن السقف عاليا بدرجة تكفى لقتل قافز , لكن الجدى الابيض الذى سٌمّى باسمى , وتربّى معى بضع سنين مات فى الحال بعد قفزة مفاجئة غير محسوبة العواقب , اذكر لكم حزنت عليه , و اتذكر باستغراب فرحة الاْهل التى لم افهمها آنذاك , لقد اعتقدوا بأنّ الجدى ـ كما قيل لى بعد ذلك ـ اخذ اسمى وصفاتى , وبالتالى كان موته بديلا عن موتى مات الجدى فداء لى ......... لم يبق من القصةالاّ ما حّيرطفولتى ... هذا الاعتقاد الطوطمى وشذرة من سؤال لم قفز الجدى الابيض الوديع , ولم لم يستطع الطيران , وقد كنت ارسمه دائما بجناحين كبيرين . ( 2 ) حبل غليظ يٌسمّى ( إرشى ) رٌبط بين نخلتين باسقتين , يبعدان عن بعضهما البعض قرابة الخمسة امتار وبالقرب منهماهيكل ذو جناحين لساقية قديمة , طٌليا الجناحان بجير ابيض يميل الى الزرقة, فيما رسمت الرطوبة وهبوب الرياح , خرائط ممتلئة بالتهشيرات المائل لونها الى الاصفر الاوكر , واحيانا تتراءى الوان متأكسدة , الحبل المرتخىعند الوسط مٌرّر من تحت وسادة صغيرة , اٌْعدت لجلوس الصبى , وبتشجيع من اخوتى الكبار وابناء عمومتى , قبضت انا الصبى باصابعى على الحبل , وتشبّت بكامل قواى الواهنة حتى لا يطّوح بى الهواء بعيدا , كنت خائفا , وخٌيّل الى انا والحبل والوسادة قد صرنا شيئا واحدا , وعندما ازدّاد الارتفاع ارتفاعا , رأيت شواشى النخيل وتغيّر المشهد مرات ومرات / شكل جناحى الساقية / انضغطت قامات اخوتى / ورأيت البقرةالواقفة باطمئنان وكأنّها اٌلصقت بالارض . علو شاهق وحركة بندولية لاتهدأ أورثانى خوفا وشعورا مفزعا , بالخطر والحذر . يداى قابضتان على الحبل الخشن , وصمتى راسخ لايؤثر فيه تهليل الصغار , ولاالكبار , انا الريشة فى مهب الريح , وكان لابدّ ان تظهر تلك الريشة التى كنتها مقاومة ما, امّا بقع الدم المتجلّط فوق الكفين الصغيرين والتى أبصرتها بعدما لامست قدماى حافة الارض , فربما كانت ثمن الشجاعة التى لابدّ ان يظهرها ذلك الصبى ,فى تلك السن المبكّّّرة من العمر . ( 3 ) فى تلك الحجرة التى طولها إثنا عشر مترا , وعرضها خمسة امتار كنّا صغارا نرهف السمع ونطيل النظر , وتبدو لنا الاشياء كما ندركها لا كما نعرفها , وخالتى ( رقيّه) يرحمها الله تحكى لنا سيرة تنتهى دونها الاعمار تقلّب البصر, فى ارجاء الحجرة وتحكى ,أثناء تغريبة الهلالى وذهابه من مصر الى تونس مارا بليبيا شخص له غول ضخم واخذ يتبعه كظله , يراقب حركاته وسكناته, اذا قام ابو زيد قام الغول , واذا جلس ابو زيد جلس الغول , اذا وقف ... وقف , واذا نام ....نام , وهكذا لم يعد ابوزيد الهلالى يطق صبرا , الى ان اهتدى الى فكرة ومضت فى ذهنه فجأة فأخذ يلفّ جسده بالياف النخل , ويعقد الاطراف بعقدة تٌسّمى ( الخرته) , عقدة سهلة الحل,غطّى جسده بأكمله , وهكذا فعل الغول بنفسه , لكن عندما اشعل ابو زيد النار فى جسده وشاهد الغول يصنع مثلما صنع. تحرّر من الالياف المشتعلة بسرعة , بينما احترق الغول , لانّ العقدة التى استخدمها , كانت تسمى ( الطرشة ) وهى عقدة صعبة ومستحيلة الحل , الاّ بسيف الاسكندر , و هيهات . ( 4 ) كان اخى الكبير مغرما بتربية الكلاب , ويحب ان يسميها باسماء من عنده , اطلق على كلب منها اسم ( سلامه ) وعلى وليفته اسم ( مسكه ) . سلامه لونه بٌنى ضارب للحمرة , ومسكة سوداء بلا شية . كنت العب مع جرائهما محاولا اقتناص التكوين والحركة والشبه فى كراسة الرسم , كان اخى يتضايق وينهرنى عندما افشل فى اصطياد ملامحهما الواقعية , وكان يطلب منّى ان ارسمهما المرة تلو المرة , والعجيب انه لم يلتفت الى رسوماتى تلك الاّ بعد حادثة الغرق . اذ كنّا بمنتصف احد الاصياف على شاطىء ( مرباط ) الشاطىء الخالى من السفائن , ورماله النائية التى ربما لم تطأها قدم انسان قط , إنشغلنا برهة من زمن فغاب سلامة عن انظارنا ثم تبعته وليفته مسكة , وطواهما الموج المتتابع , مازلت انتبه بين الحين والحين لاْخى وهويرشدنى كيف ارسم صورة جانبية للكلبين الغائبين وهو يثنى على رسوماتى السابقة والتى طالما انتقدها ورفضها آنفا , مازلت اقول لنفسى كلّما عنّ لى ذلك الخاطر , لربما لم تظهر ملامحهما الحقيقية الاّ بعد اختفاء الملامح الواقعية التى طواها الموج . __________________ ( كانت الوديان التى نراها قاحلة مليئة بالمياه . والجبال الجرداء كانت تكسوها الاعشاب والغابات . والجهات الخالية الموحشة الآن , كانت مرتعا للفيل والخرتيت وفرس البحر والطيور الجارحة. وكان الصيّادون فى لوبيا القديمة يبنون قبورهم على شكل مستدير , ويُسجّى الميت فيها على هيئة الجنين فى بطن امّه ) . ( عمّرنا بطون الامهات , ثم اغتربنا عنها بالولادة) كما قال ابن عربى فى فتوحاته . احببتُ حيواتى المتزامنة واغتراباتى المتعدّدة , احببتُ صيد العصافير / اشكالها /والوانها / اجنحتها المرفرفة / وعيونها الحيّة / اسماءها الغريبة / بوجحّار / الصفيفيرى / بو صريّمة / المير / الحمّير/ ام بسيسى . لم انس ادوات الصيد البدائية الشقليبة والقلاّبة والمنداف ,ماغفلت لحظة عن الترقب , والانصات لصوت القلب , والانتظار , الظفر, والخذلان المبين , والاصداء المتردّده فى بئر الروح . كأنّى بتلك الايام الخوالى , فضاءات الارض والسماء لايحدهما حد , والصبى الذى كنته يهيم على وجهه خلف هاتيك الاجنحة الملوّنة , حيث تختزل العلاقة بالطبيعة والوطن والحياة فى صورة ذلك الصبى الصّياد الهائم المتوحّد مع ضحاياه المحلّقة . ( ايها الغريب لاتطل الحديث حتى لايرتفع الستر عن هذه القصة , لقد اضطربت زمنا ايها القلب فالام تقضى العمر غافلا ؟ انهض واقطع هذا الوادى الصعب ............ ) لاتفارق منطق الطير لفريد الدين العطار وانظر مع التوحيدى فيمن هو الغريب ؟ ومالغربة ؟ ومالاغتراب ؟ . ( هذا غريب لم يزحزح عن مسقط رأسه , ولم يزعزع عن مهب انفاسه , واغرب الغرباء من صار غريبا فى وطنه وابعد البعداء من كان بعيدا فى محل قربه ) . ارسم كثيرا, ولوّن ما بدا لك التلوين , وضع نصب عينيك كلمات امبثياس فى رواية العشّاق التعساء. ( انا لن اعود الى الوطن الذى نُفيت منه فلاْقل وداعا لكل العواطف لكل الخيول وعرباتها ولسباق الحواجز وداعا للسلفيوم وحزمه وأوراقه وعصيره العجيب ) . عمر جهان 1998 ____________________________________________________________________ لمن اهدى هذه الاعمال؟ هل اهديها للذين غابوا مخطوفين ؟ او لتلك الخطوات الاولى التى درجها الصبى الذى كنته فوق ثرى ذات الرمال بلدتى مصراته ؟ ام اهديها آملا ان يكون الاهداء على قدر المهدى اليها للقاهرة التى نتبادل معها انخاب القسوة والتى وان كنت قد برئتُ من عين ولعى القديم بها بعدما عشت فيها ومعها عشرين عاما متصلّة فقد وقعتُ فى عين العين من ولع جديد لاينتهى . / بامفلت لوبيّات. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هناك تعليق واحد:

  1. الابحار فى الذاكرة بمثل هذا التدفق المتأنى الصادق ...
    هو ممتع لكل من يمر به ويقرأه بروحه...
    اتمنى عليك ان تعطى لقلمك جزء من وقتك الذى يشغله محمود وادواتك التشكيلية

    لك كل تقدير

    ردحذف